…وأطلق ساقيه للريح!!

دخل مدرس الصف الابتدائي الأول غرفة الصف، نافخاً صدره للأمام، وماطاًً عنقه للأعلى جاهدا إخفاء قزميته دون جدوى. كانت خطواته مجلجلة تضج في الآذان عن بعد. ووجهه عابس كعادته بمناسبة ودون مناسبة. اِنزويت عند زاوية الغرفة الخلفية في مقعدي الدراسي. حاولت إخفاء بروزي بحشر ثلثي جسدي أسفل المقعد تحت الدُرج، فقد عاقبني أمس عندما لم أعرف نشيد حزبه الذي لم أسمع به من قبل. حتى أني في تلك السن لم أكن أعرف ما هو الحزب. وقتها جن جنونه،  واحمرت عيناه، ووجنتاه، وأصبح كل ما فيه أحمر كشيطان تمطره سياط جهنم. استل مؤشر اللوح، وأخذ يجلدني على كفي، وكلما تأخرت في بسط إحدى كفيّ أمام هبوط يمناه ضربني على  فخذي أو ساقي متعجلاً. في حمأة الجلد لم يتوقف عن: حقير!! متخلف…!! لا تستحق الحياة…!! وعندما شبع ضرباً وجلداً ضربني على خاصرتي، وبحشرجة متقطعة بصقها من فمه: (إنكسح في آخر مقعد عند الزاوية يا حمار). هربت من أمامه متلوياً، وانكسحت حيث قال وأشار، وألفاظه البذيئة تلاحقني و تلسع ظهري كإبر من نار.

عندما دخل الغرفة ذاك اليوم زم شفتيه فبرز البصاق من طرفي شدقيه. أشار نحوي بمؤشره المسلول دائماً وصاح: (أنت يا حيوان إلى اللوح). وقع الأمر على رأسي كصهارة معدن مصبوبة. جررت قدمي إلى اللوح وكل ما في يرتجف. حتى ملابسي كانت ترقص على جسدي وكأنها معلقة فوق حبل غسيل. وصلت إلى قبالة اللوح فصرخ: (أكتب يا كلب كان) استنجدت بذاكرتي لاستعيد شكل حرف الياء في أول الكلمة لكنها خذلتني. لاحظ ارتباكي فاستشاط غضباً وهوى بالمؤشر على كتفي فانكسر المؤشر نصفين. ووقع الطبشور من بين أصابعي. وبحركة لا إرادية قبضت يمناي على كتفي في موقع الألم. انطلقت دموعي كالرصاص. وحرق رذاذها الساخن وجهي. كانت الدموع تنبثق من عيني ككرات نارية دون أن تبدر عني أية أنة أوصرخة. صحوت من لجة الألم على صوته: (مش حافظ درس كان يا تيس؟!) أجبته: (لأ حافظ. بس إنت قلت اكتب يا كلب في الأول مش درس كان وحرف الياء لسه ما أخذناه) صاح (تيس وغبي كمان…! طيب عندك واجب بيتي اليوم كتابة درس كان ثلاثين مرة) ثم جملته المعهودة: (انكسح يا حمار) انكسحت ومسامير كلمة (حمار) تثقب أذني وتخدش ظهري. قبل أن يخرج في نهاية الحصة الخامسة، رماني بنظرة صقورية وقال: (إنت محروم من فرصة الغداء يا حمار) وقفت في مقعدي وقلت (ماشي. بس أنا مش حمار). لكنه لم يلاحظ وقوفي ولم يسمع ملاحظتي بسبب تدافع وصياح التلاميذ الخارجين خلفه.

تدافع التلاميذ خارجين من غرفة الصف تعلو سيماهم علامات الفرح والاستبشار بما يتوقع أقليتهم من طعام غذاء أعدته لهم أمهاتهم  في البيت، وبما يتوقع ما سيجده أكثريتهم في مطعم وكالة الغوث، فقد كان أكثرية التلاميذ يمنحون بطاقات يتناولون بموجبها الحليب في الصباح، ووجبات الطعام الساخنة عند الظهيرة. وذلك بصفتهم فقراء، وأهاليهم معدمين – ومن لم يكن كذلك في تلك الأيام – وكنت أحسدهم على هذه الهبة. وكم تمنيت حينها لو حصلت على بطاقة – وكانت ما أكثرها تباع في السوق السوداء بعشرة قروش، ولكن من كان يملك عشرة قروش؟! —  كانت رائحة الطعام الشهي تزكم أنوفنا الصغيرة أثناء مرورنا بالقرب من المطعم، فتتلوى أمعاؤنا تشهياً – أحيانا كنت أقترب مع بعض المحرومين من النوافذ خلسة لنتلصص على ما في الداخل. حيث  كان التلاميذ يجلسون على مقاعد خشبية طويلة، وتمتد أمامهم مناضد خشبية، تتوزع عليها صحون ممتلئة بالخضار المطبوخ وكرات اللحم، والتي يبدو من شكلها أنها تذوب في الفم دون مضغ. كانت أعين التلاميذ مقيدة إلى هذه الصحون وهم يقبضون على الملاعق الضخمة بيد والخبز الإفرنجي الأبيض باليد الأخرى. فجأة كان يخرج أحد العاملين في المطعم فنهرب نحن مجموعة المتلصصين بأقصى ما أوتينا من سرعة وكأن كلبا مسعوراً يلاحقنا. خوفا من علقة دسمة، أو القبض علينا وتسليمنا لضابط الفرسان بتهمة سرقة الملاعق والصحون التي كانت تختفي من المطعم باستمرار. تلك الأيام لعنت الغنى وعدم الحاجة التي حرمتني من بطاقة الطعام. لكني اكتشفت فيما بعد أني لست غنياً عن البطاقة، وأن أبي ليس ميسور الحال وأن السبب هو ذاك المدرس الذي كان في خلاف مع أبي لموقفه من الأحزاب التي كانت سبباً في التعصب العشائري وأحد أسباب النكبة كما كان يقول والدي. فوصمني المدرس بتهمة الغنى ليحرمني من البطاقة انتقاماً. فقد ثبت في سجل الطالب الخاص بي أن أبي يعمل في تجارة الحرير، وهذا عمل يجعل منه ميسور الحال ومن ابنه غنيا عن البطاقة التموينية.

في ذاك اليوم الذي كنت فيه محروما من فرصة الغداء تقوقعت في مقعدي متشابك اليدين يملؤني شعور بالخجل والارتباك من مواجهة أهلي في المساء الذين لا بد وأنهم علموا بأني معاقب بسبب عدم تمكني من كتابة درس كان. فقد كانوا يعولون علي أن أكون الأول في الصف، وإن لم يكن فالأول مكرر لا بأس. جلست في مقعدي حزيناً مستكيناً وشعور بالخزي يجللني. عاد الطلاب منتعشين عند الساعة الثالثة بعد الظهر تماماً. دخل ذو القامة القصيرة، نظر إلي وسأل: ماذا فعلت أثناء الفرصة؟ أجبته: (لا شيء) فصرخ: ( لا شيء؟! لماذا لم تتدرب على الكتابة خلال الفرصة؟)  أجبته: (أنت ما قلت لي). قال بصوت آمر: (المرة القادمة لازم تتدرب على الكتابة!) أدركت أنه ستكون هناك حرمانات أخرى فاكتأبت. عند انتهاء الحصة السابعة خرجت مع التلاميذ. غادرت المدرسة جاراً قدمي بتباطؤ. كنت مهموما من ردة فعل أمي وأبي متوقعا وجبة تقريع ساخنة. وصلت البيت، ولم يكن أبي قد عاد من عمله. أما أمي فقد كانت تنتظرني عند بوابة البيت المتداعية، ابتسمت لمرآي، ولم تسألني عن الحرمان بل سألتني بصوت خفيض عن أحوالي، لم أجبها، وانسللت إلى داخل البيت. لاحظت أثناء دخولي ابتسامة تعلو وجوه إخواني الكبار وهم يتابعونني بنظراتهم. تبعتني أمي متسائلة: (أحضر لك الغداء؟) أجبت: (مش عايز غدا ولا زفت عايز قرش) سألتني: (ولماذا؟) أجبتها: (عندي واجب نسخ بيتي ودفتر النسخ امتلأ. أريد أن اشتري دفتر جديد) دست يدها في صدرها وأخرجت صرة صغيرة من القماش فكت عقدتها بحرص عقدة عقدة، فتحت طياتها بانتباه، أخرجت قرشاً، دققت فيه النظر ثم نقدتني إياه، اطبقت أصابعي عليه، وتوجهت خارجا إلى دكان أبي سعيد. طلبت من أبي سعيد دفتراً فسألني: (كم معك؟) قلت:(قرش)، قال: (إذن دفتر بستة عشر ورقة). ناولته القرش، فناولني الدفتر.

عدت إلى البيت وجدت لمبة الكاز قد أضيئت. جلست أمامها، سحبت الجزو [*] إلى جانبي. أخرجت كتاب القراءة فتحته على درس كان ثم أخرجت القلم والممحاة. تمددت مواجهاً الأرض. أمسكت بالقلم بين أصابعي وثبته بصعوبة، فتحت دفتر النسخ وبدأت الكتابة. حرصت على أن يكون خطي صغيرا ما أمكن. حتى يتسع الدفتر لثلاثين درسا. فيجب أن أنسخ كل درس في صفحة واحدة فقط، فالدفتر اثنان وثلاثون صفحة. والورقة الأولى يجب عدم الكتابة عليها حسب تعليمات المدرس يتبقى خمسة عشر ورقة، أي ثلاثون صفحة. والواجب ثلاثون مرة إذن يجب أن يكون كل درس نسخ على صفحة واحدة ليس أكثر. وإلا لن أجد ما أكتب عليه، وقد يجد القصير في ذلك سببا لشتمي، وحرماني من فرصة غداء الغد، وهذا أمر لا أحتمله، كنت أنسخ الكلمات ممسكاُ القلم بقوة، وحريصا على عدم ارتكاب أخطاء إملائية، والمحافظة على نظافة الصفحة، أخذ العرق يتصبب من جبيني، والمخاط من أنفي. أنهيت نسخ الدرس الأول. أخذت شهيقاً طويلاً، ونفثته بهدوء وراحة، أخرجت منديلي القماشي ومسحت عرقي ومخاطي به. أحضرت أمي الشاي ووضعته أمامي، وهي تقول: (ما بدك تاكل، طيب اشرب شاي) أجبتها: (ما بدي آكل ولا أشرب، ما بدي أي اشي) سألتني: (ليش؟) أجبت: (لأني مش جعان، ولا عطشان، أنا عايز أكتب وبس حلي عني) داعبت شعري، وتراجعت وهي تبتسم. عدت للنسخ. نسخت الدرس مرة ثانية…ثالثة….رابعة…وعند العاشرة عادت أمي لتسألني: (كم مرة ستكتب الدرس؟) قلت: (مليون مرة عاجبك!!) قالت بهدوء: (الساعة تسعة، ونريد النوم) صحت: (ناموا حدا مانعكم؟!) قالت: (يجب أن نطفئ اللمبة). تذكرت أن أمي لا تتساهل في هذا الأمر. فعند الساعة التاسعة من الليل تطفئ اللمبة وهي تقول: (الكاز مش ببلاش، لكن النوم ببلاش) عند ذلك قلت لها: (زي ما بدك) حملت كتابي ودفتر النسخ وخرجت إلى الحوش. كان القمر بدراً وضوءه في الخارج أفضل من ضوء اللمبة في الداخل. وضعت الكتاب والدفتر على سطح صخرة في وسط الحوش، وعاودت نسخ درس كان. عملت طويلاً بهمة وجلد. حتى أني أطلقت على تلك الليلة فيما بعد (ليلة النسخ الكبيرة). لم أتوقف عن النسخ حتى عندما استيقظ أبي وسألني (ماذا تفعل يا ولد؟) أجبته: (اكتب واجب بيتي)، رد علي: (صباح الخير) وخرج إلى عمله. عندما وصلت الصفحة الأخيرة من الدفتر أدركت أني أنهيت الواجب البيتي، أخذت شهيقا وزفيرا عدة مرات ثم حشرت الكتاب والدفتر في (الجزو).

انتبهت على أمي وهي تناولني الشاي وتقول: (صباح الخير)، قلت: (صباح الخير). شربت الشاي على جرعات دون حذر من سخونته، وعندما انتهيت علقت (الجزو) بكتفي، وهرولت نحو المدرسة. لاحقتني أمي متسائلة: (الفطور يا ولد، ارجع حتى تفطر)، لوحت لها بيدي مبتعداً في الطريق إلى المدرسة. مررت بمطعم وكالة الغوث وكان التلاميذ يصطفون في صف طويل وكل منهم يحمل بطاقته التموينية منتظراً دوره في الدخول، لم أتوقف أو أعرهم اهتماماً. واستمريت بخطوات واسعة نحو المدرسة. وصلت مبكراً، قابلت أبو داود الحارس والآذن معاً ينظف غرفة الصف، طلب مني مساعدته في نقل سلال المهملات وإفراغها في البرميل الحاوية. ففعلت، بعد قليل بدأ التلاميذ في التوافد إلى المدرسة فرادى وجماعات، بعضهم دخل ضاجاً صاخباً وآخرون دخلو وهم يتثاءبون ويفركون أعينهم، أما القلة فدخلوا بهدوء وأدب، بملابس نظيفة، وحقائب جلدية، دون أن ينظروا إلى أحد أو يتكلموا مع أحد، وكأنهم طابور تدريب عسكري. هؤلاء هم أبناء علية المخيم مثل مدير المخيم، وقائد المخفر، وقائد الفرسان، ومدير المدرسة والمدرسين….

دق الجرس، فانتظمنا في صفوف ودخلنا الغرف الصفية بهدوء،  جلست على طرف مقعدي في الخلف، أخرجت دفتر النسخ ووقفت فوق الدرج ممسكاً بالدفتر، كان ناظراي مسمرين على باب الغرفة. دخل القصير كعادته وكهيئته. وقبل أن يصل المنضدة التي كان يستعملها كمكتب كنت أقف أمامه منفوشاً كالطاووس وبحركة استعراضية قذفت دفتر النسخ على المكتب أمامه، قذفني بنظرة وهو مقطب الجبين، تمتم: (حيوان، غير مؤدب)، ثم صرخ: (إفتح يديك). كان يحمل مؤشرا جديدا، فسألت: (لماذا؟) كز على أسنانه وهو يقول: (ولا نفس، مش عايز أسمع صوتك، حتى نفسك اقطعه. افتح كفيك واخرس)، سألت مرة ثانية: (لماذا؟)، لم يتكلم، تقدم نحوي وحاول أن يهوي بالمؤشر عليّ،  تفاديته، وتراجعت باتجاه النافذة، تبعني محاولاً ضربي من جديد، فقفزت فوق الدُرج الذي في المقدمة، ثم إلى حافة النافذة ومن هناك إلى الأرض خارج الغرفة. أطل علي القزم من النافذة، مد عنقه وهو يصيح: ارجع يا حيوان!

رددت عليه: (مش راجع، وبعدين أنا مش حيوان) صاح مرة أخرى: (حيوان وأكثر!)

رددت: إنت الحيوان وحمار وتيس و… و… و… وأطلقت ساقي للريح.

[*] الجزو: حقيبة مدرسية من القماش كانت تخيطها الأمهات لأبنائهن في الخمسينات من القرن الماضي وكان التلاميذ يعلقونه في أكتافهم.

رام الله 21/3/2011

نبذة عن:

محمد حسان

محمد حسان.
رحالة متنقل في ربوع ثقافات القبائل العربية. قديم قدم وعيه وثقافته. عصري حتى نهاية الحلم.
العقيدة: "قوم بلا جهال ضاعت حقوقهم"

عدد المقالات المنشورة: 7.

تابع جديد محمد حسان: الخلاصات

التعليقات: 3

  • بقلم حسام دويكات بتاريخ 22 مارس, 2011, 16:01

    قرأت وقرأت حتى النهاية …وتسائلت مع نفسي هل انتهت فعلا ام ان هناك تتمة ..؟؟
    في القصة حشد للمشاعر إستعدادا للحظة التصادم ، فهل كانت حادثة النهاية هي اللحظة المنتظرة ..؟ إن كانت كذلك فلم تروي غليلي في هذا المدرس المتسلط …
    موضوع شيق ولغة جميلة وقوية و موضوع تمنيت لو لم ينتهي كما انتهى

  • محمد حسان
    بقلم محمد حسان بتاريخ 28 مارس, 2011, 13:27

    صدق إحساسك يا صديق ! إنها ليست النهاية. هذا النص فصل من رواية حاولت كتابتها مراراً وتكراراً، وفي كل مرة يخذلني أو أخذله القلم . فأنكفؤ في قوقعتي منتظراً دفق الكتابة من جديد. وعندما يأتي تراني أخرج بشئ مختلف. أتمنى يوما في هذه الدنيا أنهي كتابة رحلتي في الحياة.

  • وليد سليمان
    بقلم وليد سليمان بتاريخ 29 مارس, 2011, 1:32

    اكتب حتى تكون الرواية ولا تدع للخذلان زاوبة. بعدها ستكتمل النصوص ويكون التمني حقيقة وسنقول في اخر الرواية ( هذه رحلتي مع الحياة)

هل لديك تعليق؟

  • هل تريد صورة مصغرة بجانب تعليقك؟ يمكنك ذلك من خلال التسجيل في خدمة Gravatar. كما يمكنك الاستئناس بهذا الشرح.
  • يرجى التعليق باللغة العربية الفصحى، وباسم مكتوب بأحرف عربية.
© 2024 مجلة القراء.
هذا الموقع يستعمل وورد بريس المعرب، تصميم وتركيب دنيا الأمل.