قطيعة

بعد طول معاناة، وصراع أطول مع المرض، لفظت أنفاسي الأخيرة. أسلمت روحي بهدوء، وأنا أؤكد على أبنائي بأن يلحدوني في فسقية أجدادي، وليس في الجبانة حيث يدفن كل ميت لوحده. لقد كنت أخشى الوحدة. استنجد أبنائي المحبين بشيخ الجامع، فهرول هذا بالحضور بمجرد سماعه باسم سالم أبو الروس وفعل “توفي” وعندما يحضر الشيخ تحضر معه عدته من مقرئين، ومساعدي الغسل، وشلة الإفتاء ممن يتولون الأمور الدينية في القرية. ما أن سمع الشيخ بوصيتي حتى طلب خلوة مع شلة الإفتاء للمناقشة. لم يستغرق النقاش وقتا طويلا فالأمور واضحة بهذه القضية. لقد حض الدين وألزم تنفيذ الوصية كما تفضل كبير الإفتاء. لكنه أضاف: (أهذه الوصية الوحيدة التي أوصى بها المرحوم؟! ألم يوصي بشيء للجامع أو الوقف أو – وهنا بوقار زائد – أو لأمور أخرى). وعندما أجابه ابني البكر بالنفي هز الكبير رأسه متمتما: على كل الله يرحمه!! جهر الشيخ بصوته: ״لا إله إلا الله، إكرام الميت دفنه״. أردت الاعتراض لكن الحروف التي تكومت في الذهن لم تستطع أعضائي الصوتية تحويلها إلى كلام مسموع، وضاعت محاولتي هباءً. قام الشيخ وشلته بتمديدي على لوح خشبي خشن. وعراني من ملابسي وأخذ يدعك جسدي بالليفة والماء والصابون. ثم جففوني ودسوا أشياء في بعض أشيائي ورشوني بعطر الثلاث خمسات والحناء، ولفوني بالكفن وهم في كل هذا لا يتوقفون عن التكبير والتهليل وخلافه مما كاد يصدع رأسي. قام الشيخ مع بعض شلته بفتح باب الفسقية وهو يهدر بالتهليل والتكبير. دفع بعض الهياكل العظمية إلى الداخل، ومددني بمحاذاة احدهم على جانبي الأيمن مستقبلا القبلة، ودس تحت خدي حفنة من تراب، ثم مال على ابني الكبير سارا في أذنه! (إنها من تراب الأقصى..! أحضرتها قبل أسبوعين خصيصا للمرحوم)، انتفضت في موتي وقلت في نفسي: الكذاب ما أدراه بموعد موتي منذ أسبوعين؟ أم أنه اخترق السماء ممتطيا ظهر شيطان واطلع على أوامر الله لعزرائيل؟ وكيف استطاع ابن الكذاب دخول القدس دون تصريح؟! والله لولا مخافة الله لقلت أن الأولى أسهل من الثانية. وعندما شكره “بكري” على ذلك رد شيخ الشياطين (أبوكم بستاهل كل خير) فصرخت في أبنائي: (إنه مخادع كذاب. لا تدفعوا له “إكسترا”) لكن أحدا لم يسمعني فتيقنت بأني ميت وإلا لسمعوني. بعد ذلك انتقل الكذاب إلى التلقين. وكان درسا طويلا يحتاج إلى سنة دراسية لحفظه وإتقانه. ولأني كنت متعبا منهكا من طقوس الغسل ذهبت في غفوة لم استيقظ بعدها إلا على صرخة الشيخ وهو يغلق باب الفسقية “الفاتحة”.

عم الهدوء وساد الظلام أركان وزوايا الفسقية بعد ذلك، فقررت مواصلة غفوتي. لكن بعد لأي لا أعلم مداه أحسست بكف عظمية تخزني في خاصرتي. وصوت مصحوب بصرير عظام يستفزني:

– هيا انهض… يكفيك نوما… هل مت كي تنام؟!

أفقت مرتجفا ومتسائلاً: وهل الموت غير نوم في نوم؟!

فركت عيني مدهوشا فإذا الهيكل العظمي الذي أرقد بمحاذاته يكتسي لحما وينبت في فمــه لسانا يسأل:

– من أنت لتأخذ مكاني؟؟

لتأخذ مكاني؟ لم أجد لها إجابة. من أنت؟ سهلة أجبت عليها بسرعة:

– أنا سالم أبو الروس.

– أنت سالم أبو الروس؟! ومن أكون أنا؟ أم أنهم باعوك اسمي؟ عند ذلك ارتجف نصف الهيكل العظمي ونبتت له عضلات وأصابع، وأمسك بخناقي متسائلا: هيا أخبرني من باعك اسمي؟ وكم قبض؟

خرج صوتي بصعوبة:

– لم يبعني أحد، ولم يقبض أحد.

عاد الهيكل العظمي يهز عنقي بعنف وعاد لسانه للصراخ:

– إذاً كيف تكون سالم أبو الروس، وأنا سالم أبو الروس؟! أم أنك أبو الروس المحدث؟ يعني آخر موضة؟…. آخر صرعة؟…. آخر نسخة؟….. هيا حدد.

ازرق وجهي وثقل صدري فأجبت بسرعة:

– كلا أنا آخر سالم أبو الروس في عائلة أبو الروس. ويبدو أنك جدي .

– جدك أنت لا…لا…حفيدي سالم أبو الروس الثاني كان يتمدد هناك قبل أن أطرده إلى الجبانة منذ أسبوع.

–  إذن يبدو أني حفيد الحفيد المنفي.

– المطرود…قلت لك طردته.

– ولماذا طردته؟

أجاب بملل!

– لقد تطاول على من هم أكبر منه.

– وكيف تطاول جدي الخلوق الخجول كعذراء – كما كان يحلو لأبي وصفه – على من هم أكبر منه؟

أهمل الرد علي ورمقني بنظرة احتقار كمن ينظر إلى براز حشرة وقال هازا رأسه:

– إذن أنت حفيد أبو الروس طويل اللسان؟!

– حفيد أبو الروس نعم. ولكن طويل اللسان فان أبي رحمه الله لا يوافق على ذلك.

– يبدو أن لسانك أطول من لسانه؟

– أطول أو أقصر لا استطيع أن أحكم، فلقد مات قبل مولدي. ولكن ماذا فعل جدي حتى تغضب منه هكذا؟

– يبدو أنك كثير الغلبة مثله؟

– لست كذلك ولكن أريد معرفة كيف تطاول جدي؟

– لقد فعل فعلك. فلقد كان مثلك لحوحا ملحاحا.

– لا لست لحوحا… ولا ملحاحا… لكن كان مجرد سؤال، ولو أجبتني من البداية لا سترحت وأرحت.

– استرحت وأرحت؟! هذه قلة أدب. يبدو أن جدك نشرها في أهل زمانه. وأهل زمانه نشروا في أهل زمانك الذين أوصلوا إليك قلة الأدب في النهاية.

– أحفظ لسانك أرجوك. فأنت أبو الروس وأنا أبو الروس. وقد تكون أقدم مني زمانا، لكن هذا لا يجعلك اكبر مني عمرا. وفي هذه الحالة عليك احترامي.

– فعلا إن زمانكم علمكم سوء الأدب.

– لا تشتمنا ولا تشتم زماننا؛ زمن العلم والنور والتكنولوجيا، بعكس زمانكم زمن الجهل والظلام والأدوات الحجرية.

– إلزم حدودك يا ولد حتى لا ينتهي مصيرك إلى مصير جدك. كما أن زمانكم زمن الانحلال الأخلاقي وانحطاط القيم وقلة الأدب بعكس زماننا زمن احترام الصغير للكبير. والأدب الجم والقيم الرفيعة .

– وماذا نفعكم أدبكم الجم وقيمكم الرفيعة؟!

– وماذا نفعكم العلم؟ وماذا نفعتكم التكنولوجيا ؟

– على الأقل وفرت لنا الراحة وبحبوحة العيش والتواصل مع العالم.

– أية راحة وأنتم تدورون في دواليب الوظائف كثور الساقية وأية بحبوحة؟ فطعامكم إما مشبع بالمواد الحافظة أو مترع بالهرمونات. وما نفع التواصل مع العالم وأحدكم لا يعرف اسم جاره؟

– وما نفعتكم أسماء جيرانكم؟ حيث كنتم تجاورونهم صباحاً، وتقتلوهم ليلا. ثم أن “المعلب،  والمهرمن” وفر لنا كل أنواع الطعام والفواكه على مدار العام بعكس زمانكم الأجدب؛ زمن المواسم الميتة.

– زماننا الأجدب؟! …. زماننا زمن السمن والعسل. زمن الزبيب والصنوبر. زمن لبن النوق والجبن البلدي.

– هدئ .. هدئ .. السمن والعسل. الزبيب والصنوبر. اللبن والجبن. هذه أصناف طعام الأغنياء والملوك. وأنت لم تكن من هؤلاء ولا من أولئك، لقد كنت “قطروزا” وكان أبوك “عتالا”.

– الخير عندما يوجد يعم الجميع سواء كان أميرا “أم قطروزا”، غنيا أم عتالا. ولقد جعلنا هذا أقوى، وأكثر بأسا و فحولة.

– أقوى؟! أشك في ذلك. أكثر بأسا؟! لا يوجد ما يثبت. أكثر فحولة فهذا ما ينفيه الماضي والحاضر.

فلو كنتم كما تدعي لما اكتفيتم بولد أو اثنين في أحسن الأحوال – وإنما لأنجبتم عشرة أو خمسة عشر كما هو الحال في زماننا.

– عدت للتفاخر بزمانكم! زمن الضعفاء والمخنثين!

– يظل أحسن من زمانكم! زمن التخلف والذل والاستعمار الأجنبي!

علت أصواتنا وتداخلت ولم يعد يعرف الزمان الذي يشتم من الذي يمدح، فدارت حركة في أركان الفسقية بينما كانت عظام عجوز ممدة بجانب أبو الروس الكبير تتحرك… ويكتسي فمها شفاها ولثة ولسان وعندما تكتمل الأحبال الصوتية.. تصرخ بنا منفعلة:

– “داهية تدهى زمانك وزمانه، .. دوشتونا في موتنا … انخمدوا  وموتوا.. قطيعة تقطعكم .. قطيعة إن شاء الله .. قطيعة.. قطيعة”.

رام الله: 30/8/2010

نبذة عن:

محمد حسان

محمد حسان.
رحالة متنقل في ربوع ثقافات القبائل العربية. قديم قدم وعيه وثقافته. عصري حتى نهاية الحلم.
العقيدة: "قوم بلا جهال ضاعت حقوقهم"

عدد المقالات المنشورة: 7.

تابع جديد محمد حسان: الخلاصات

تعليق واحد

  • خالد زريولي
    بقلم خالد زريولي بتاريخ 15 نوفمبر, 2010, 23:50

    قطيعة تعطعهم..
    أنا أيضا “دوشوني” هههههه
    فكرة جميلة.. راقت لي القصة

    ملاحظة: لم يثبت أن ملك الموت اسمه عزرائيل..هي من الأخطاء الشائعة، لذا أرجو أن نلغي استعمال هذا الاسم، والاكتفاء بلفظ “ملك الموت”

    تحياتي

هل لديك تعليق؟

  • هل تريد صورة مصغرة بجانب تعليقك؟ يمكنك ذلك من خلال التسجيل في خدمة Gravatar. كما يمكنك الاستئناس بهذا الشرح.
  • يرجى التعليق باللغة العربية الفصحى، وباسم مكتوب بأحرف عربية.
© 2024 مجلة القراء.
هذا الموقع يستعمل وورد بريس المعرب، تصميم وتركيب دنيا الأمل.