الحب الخادع

كيف نضيء اللاشعور المظلم الخفي المطمور تحت الأنقاض الذي يفسد علينا حياتنا!!؟؟
كيف نفرق بين ما نحب ونكره!!؟؟
وبين ما هو علم وشعور في النور، وبين ما هو عكس ذلك من الأمور المتخفية في الظلام!!؟؟

بهذه التساؤلات الفلسفية العميقة ختم أستاذنا المفكر الكبير جودت سعيد مقاله عن صدمة الأفكار، أو “ماسمعنا بهذا” بالتعبير القرآني.
لقد صدمنا مالك بن نبي بأفكاره، مثلما فعل بعده جودت سعيد؛ لما قرأنا كتاب شروط النهضة لمالك بن نبي لم نفهم ابعاد كلامه، كما يقول أستاذنا جودت سعيد، ولما زارنا جودت سعيد بمدينة فاس، وألقى علينا محاضرة، أصبنا بالذهول، وأدركنا بأننا كنا نمشي على رؤوسنا”أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم” (الملك:22).

لقد وضح لنا مالك بن نبي وجودت سعيد كثيراً من لا شعورنا الذي يفسد علينا حياتنا، بأن أبرزاه إلى الشعور، إلى الضياء، إلى العلم والمعرفة، وأخرجاه من ظلام الحب والكراهية، لأن الحب أعمى.
وقد جاء في الحديث:”إن حبك الشيء يعمي ويصم” (سنن أبي داود، الأدب، في الهوى).

تقول الحكاية انه في قديم الزمان عاشت الفضائل مع الرذائل فترة..
ثم إنهم شعروا بالملل، لهذا اقترح عليهم الإبداع لعبة الغميضة، فأسرع الجنون قائلا أنا أغمض عيني أولا، وأنتم تختبئون، فوافقوه، وبدؤوا بالاختباء؛ الرقة فوق القمر، والولع بين الغيوم، الكذب قال بصوت مرتفع: سأختفي تحت الأحجار، لكنه غطس في بركة الماء… ما عدا الحب فقد بقي حائرا، حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يفتح الجنون عينيه، ثم قفز أخيرا وسط أجمة ورد..

فتح الجنون عينيه، واستطاع الوصول إلى كل المختبئين ما عدا الحب، لكن الحسد دله على مكانه، فأسرع الجنون وبيده خشبة شوكية كالرمح فجعل يطعن شجيرات الورود ويقول: اخرج لقد وجدتك، ولم يتوقف إلا بعد سماع صوت بكاء يمزق القلوب..

ظهر الحب وهو يضع يديه على عينيه، والدم يقطرمن بين أصابعه.. ذعر الجنون وصاح: كيف لي أن أصلح غلطتي!؟
أجابه الحب: لن تستطيع رد بصري، ولكن دلني على الطريق..
ومن ذلك الوقت والجنون هو من يقود الحب ويرشده..
فالحب أعمى يقوده الجنون؛ فلا المقود يرى و يبصر ، ولا القائد عاقل يعرف ماذا يفعل.

هذه حالنا نحن العرب والمسلمين نحب، ولكن لا نعلم، والله يقول: “وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” (البقرة: 216).
الأحاسيس والمشاعر خداعة، يتضح هذا فيما يأكله الناس ويشربونه ويلبسونه..
إن الأحاسيس والمشاعر هي التي تتحكم في كل ذلك، وليس العلم و حاجة الجسد، وعلم النفس السلوكي يركز على أن سلوكنا، يخضع للأحاسيس والمشاعر، وليس على العلم والمعرفة.

نحن أخطأنا بحسنا البصري في فهم حركة الشمس الخادعة، أخطأنا في فهم أوضح شيء في الوجود؛ وهي الشمس، أوليس يقولون: واضح وضوح الشمس، ولكننا أخطأنا جميعاً في فهم حركة الشمس، فرأيناها تدور حولنا، بينما نحن الذي ندور حولها.
فإذا أخطأنا في فهم أوضح شيء في الوجود، فما هو الشيء الذي يمكن أن نقول عنه: إننا لا نخطئ فيه!؟
ولهذا يجب علينا ألا نبني الأحكام على المشاعر والعواطف، وإنما على العلم والمعرفة والوقائع، والله تعالى يقول عن غير المسلمين:”هانتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم” (آل عمران:119).

فنحن عندنا تضخم في هذا الجانب؛ جانب الأحاسيس والمشاعر، بينما الأمور لا تدار بهذه الطريقة، ولكن يتم ذلك عن طريق العقل والمنطق، لأن المشاعر والأحاسيس خداعة والشاعر يقول:

عين الرضا عن كل عيب كليلة             وعين السخط تبدي المساويا.

ولهذا وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “أحب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما” (سنن الترمذي، البر والصلة، ماجاء في الاقتصاد في الحب والبغض).
فالمطلوب الاعتدال والتوازن و الوسطية، وعدم الاستسلام للعواطف تتحكم في مصير الانسان ومستقبله..

نبذة عن:

جمال اشطيبة

جمال اشطيبة، أستاذ، من مواليد 1976 (المغرب). حاصل على شهادة الإجازة في الآداب ودبلوم الدراسات العليا في الدراسات المقارنة من جامعة محمد بن عبد الله (فاس - المغرب).
الهوايات: المطالعة و الكتابة وممارسة الرياضة.

رابط المدونة: مدونة صناعة الحضارة

عدد المقالات المنشورة: 11.

تابع جديد جمال اشطيبة: الخلاصات

التعليقات: 8

  • خالد زريولي
    بقلم خالد زريولي بتاريخ 20 يونيو, 2010, 11:14

    مقال جميل بدون مجاملة، أعجبتني قصة الغميضة كثيرا لجماليتها الأدبية وعمق معانيها.
    فقط بخصوص استعمال العقل في إدارة عجلة الحياة، فهو وحده أيضا لا يكفي، لابد أن تساعده المشاعر، كل بمقدار.. حتى لا نلغي دور المشاعر بتاتا.. وأكاد أجزم أنهما في نفس الدرجة، فأنا عندما أحب ربي أبحث عما يقربني منه باستعمال عقلي، والعكس: إذا اقتنعت بأنه الأحق بالعبادة وبرحمته وبعدله أحببته..
    ولعل الجملة الأخيرة بالموضوع تعبر بالضبط عن صميم الفكرة. وسطية واعتدال وعدم الاستسلام للعواطف (ضمنيا عدم الاستسلام للعقل وحده)
    متألق أخي جمال
    ولك مني التحية

  • جمال اشطيبة
    بقلم جمال اشطيبة بتاريخ 20 يونيو, 2010, 20:36

    أشكرك أخي خالد، لقد أضأت الجزء المظلم من مقالتي هذه،
    إن عقولنا حين تركز على ناحية ما فهي تنسى وتغيب عنها زوايا أخرى مهمة،
    العاطفة أمر مهم أيضا، ولكن مشكلتنا يا أخي هي في الافراط في هذا الجانب
    ولهذا الافراط مآسي وآلام وأحزان كثيرة، نحن نحب ونكره ولكن بدون علم وبدون عقل وبدون تفكير، والقضية هي أن حضور العاطفة يهدد بنقض العملية من أساسها
    أرجو أن يكتب أحدنا في هذا الأمر ويجليه بشكل واضح

  • عبير أكوام
    بقلم عبير أكوام بتاريخ 22 يونيو, 2010, 14:08

    السلام عليك أخي جمال،موضوعا أعمق من العنوان
    تضمنت سطورمعاني أعمق من العنوان،
    راقني بشدة الموضوع،
    بارك الله فيك
    كن بصحة وعلى خير

    في أما الله ^__^

  • جمال اشطيبة
    بقلم جمال اشطيبة بتاريخ 22 يونيو, 2010, 15:39

    عليك السلام أختي عبير
    يسرني أن أقرأ ملاحظات من مبدعة مثلك
    لك مني كل الشكر والتقدير
    ودمت بألف خير

  • بقلم تيم بتاريخ 5 يوليو, 2010, 14:22

    بكل صراحة الناس ليسوا كلهم مثل بعضهم فلا تحكم ولا تضع ابدا حدا لنهاية قصة فانا اؤمن بان الحب ليس له نهاية لانه جزء من الحياة الموت وحده من ينهي كل شيء

  • جمال اشطيبة
    بقلم جمال اشطيبة بتاريخ 5 يوليو, 2010, 19:28

    أحسنت أخي
    لا حياة بدون حب
    وانعدام الحب موت بمعنى من المعاني
    أشكرك لقد لفتت نظري إلى معنى أغفلته

  • بقلم ايمان بتاريخ 1 يناير, 2013, 14:41

    هادا ليس حب

  • بقلم ايمان بتاريخ 1 يناير, 2013, 14:45

    هدا حب غامظ

هل لديك تعليق؟

  • هل تريد صورة مصغرة بجانب تعليقك؟ يمكنك ذلك من خلال التسجيل في خدمة Gravatar. كما يمكنك الاستئناس بهذا الشرح.
  • يرجى التعليق باللغة العربية الفصحى، وباسم مكتوب بأحرف عربية.
© 2024 مجلة القراء.
هذا الموقع يستعمل وورد بريس المعرب، تصميم وتركيب دنيا الأمل.