يا لخيبتك…!

“يا لـ خيبتك …!!”

فح الصوت خافتا من خلال سماعة الهاتف.

فتحت عيني وصرخت:

– ماذا…؟ من أنت…؟؟

أغلقت السماعة في الطرف الآخر على عجل. فوضعت من طرفي سماعة الهاتف.

تجولت بنظراتي في زوايا الغرفة. كان الوقت ما زال ليلا. تساءلت:

– من هذا الذي نغص علي نومي؟ وماذا قصد بقوله “يالـ خيبتك..؟” ربما كان أحد المزعجين.

حاولت الإغفاء من جديد. وما أن انحدرت في السبات شيئا فشيئاً حتى سمعت خشخشة سماعة الجامع القريب، فكرت “يبدو أنه آذان الفجر”. حاولت التغاضي عن ذلك لكن عاد الفحيح يتسلل إلى أذني من سماعة الجامع: “يا لخيبتك…!!”

نهضت جالسا فوق السرير مستفزاً  كل حواسي، لكني لم أسمع خشخشة أو آذانا، حاولت النوم من جديد. لكن  حواسي عاندتني ورفضت ذلك.

״حسنا لأبدأ نهاري إذن״ قلت في داخلي.

نهضت عن سريري. توجهت  إلى الحمام، تبولت، وتبرزت عند ذلك فح الصوت من جديد “يا لخيبتك”. نهضت مسرعا ونظرت إلى أسفل فلم أكتشف شيئا.

جلست على الشاطفة. غسلت قفاي. فكرت وأنا أقرفص:

״إن هذا الاختراع من أروع ما توصلت إليه البشرية..!!״

نهضت وغسلت أسناني بنفس الطريقة التي علمتني إياها طبيبة الأسنان، وذلك بأن أحرك الفرشاة بشكل دائري على أسناني، وليس بشكل أفقي أو عمودي، حلقت ذقني. خلعت ملابسي وانزلقت بجسدي تحت ״الدش״. غطيت جسمي بالصابون وعندما فتحت صنبور الماء فح الصوت من جديد:

“يا لخيبتك…!!”

قفزت من تحت الماء، ومسحت كتل الرغوة عن عيني، فلم أر شيئا، كان الماء يجري  منزلقا نحو الأسفل، ثم ينحدر في المجرى مصدراً خريراً ناعماً. حشرت جسدي تحت الماء من جديد. شطفت الرغوة عن جسمي برشاش الماء. جففت نفسي. وارتديت البيجامة. فكرت قليلاً بينما كنت خارجاً:

“لماذا لم يستيقظ أحد من أهل البيت؟” لا يهم.

توجهت إلى المطبخ. ملأت “غلاية” القهوة ماءً، ووضعتها فوق الغاز. حركت قفل الغاز مرة وأخرى  وأخرى…

أدرت مفتاح البوتغاز نحو اليمين.

طق… طق… طق.. “يا لخيبتك…!!”

رفعت غلاية القهوة ونظرت تحتها..! لا شيء، وعلى جانبي البتوغاز ״لا شيء״ وتحته ״لا شيء״.

״لا بأس لأرتشف  قهوتي وأستعد للخروج״.

أكملت ارتشاف الفنجان. وأنهيت استعداداتي، وخرجت. كان الوقت أول الصباح وآخر العتم وعلى الدرج اصطدم بي جسم لم أتبين ملامحه، وفح ״يا لخيبتك…!!״

صرخت: ״اسمع.. أنت.. ماذا قلت..؟״

لم يجبني واختفى  في حنايا الدرج.. أكملت طريقي نحو سيارتي الخاصة وفتحت الباب. جلست على المقعد. عدلت من وضعه، ووضع المرآة. أدرت مفتاح ״السويتش״ فانطلق صوت ״الماتور״:

فررررررررر ثم ״يا لخيبتك”. أطفأت ماتور السيارة وأصخت السمع.. لا شيء… حسنا يبدو أني أُصبت بالوسواس. أعدت تشغيل السيارة من جديد فعاد الفحيح “يا لخيبتك!!”، لكني تجاهلته.. أدرت ماسحات المطر حتى أصبحت الرؤية واضحة… أعددت السيارة في وضع الرجوع، وضغطت بقدمي اليمنى على دواسة البنزين فبدأت السيارة في الرجوع للخلف. خمسة أقدام… عشرة… ستة وعشرين، وأصبحت في مواجهة الشارع، وكان الفحيح مصاحبا لكل قدم لكني تجاهلته. عدلت من وضع القيادة وانطلقت إلى الأمام نحو مقر عملي يصاحبني الفحيح إياه. منذ عشرين عاماً وأنا أسلك نفس الطريق صباحاً ومساءً ولم أسمع هذا الصوت. فلماذا يصدر اليوم؟َ ربما كان موجودا ولكني لم أكن أنتبه له. أخيرا وصلت الشركة التي أعمل بها. ركنت السيارة في المرآب المقابل، نزلت من السيارة، توجهت نحو باب الشركة. لم يكن هناك أحد من الموظفين في الشارع. لم أستغرب ״فربما مازال الوقت باكرا. مالي ولهذا فأنا عادة أحضر إلى العمل باكرا وأحيانا قبل أن يحضر الحارس״.

عندما وصلت باب الشركة الزجاجي وجدته مغلقا والحارس يقف خلفه، وعندما رآني قال:

خير يا أستاذ؟… ما الذي  أتى بك؟!

أجبته: “أغريب أن آتي إلى العمل؟!״

أجابني: “ليس غريبا في أيام الدوام ولكن اليوم بداية عطلة عيد الفطر… والشركة مغلقة״…

فجأة تذكرت أني من أصدر تعميم عطلة العيد للموظفين. قلت للحارس البواب:

أنا آسف  يبدو أني نسيت.

أدرت ظهري مبتعداً فثقب أذني فحيحه: ״يا لخيبتك.. ويا مسكين״ لم أعره اهتماما وتوجهت نحو المرآب. دخلت فارهتي الخاصة. وانطلقت بها أجوب شوارع المدينة. كانت الشوارع خالية إلا من بعض المتوجهين إلى الجامع لأداء صلاة العيد، كانوا يسيرون بخطى ثابتة موحدة تعودوا عليها عشرات المرات. ليس خطواتهم فقط موحدة، بل وملابسهم أيضا، وتسريحة شعورهم أيضا، ولحاهم،  وعطورهم النفاذة. وطريقة تحيتهم وهم يتوجهون فرادى وجماعات نحو نفس المكان. مللت  من مراقبتهم فتوجهت إلى الميدان الرئيس في وسط المدينة. كان الميدان عبارة عن مجموعة من الدوائر الحجرية تلتف حول بعضها تتوسطها دائرة مكتظة بالأسود الرخامية ومغمورة بالماء حتى منتصفها.

درت بالسيارة حول الدائرة الخارجية مرة اثنتين.. ثلاثة… و”يا لخيبتك!!” مع كل دورة. خلال دقائق إمتلأ الميدان بعشرات السيارات وآلاف المشاة الذين كانوا يتبعونني. فجأة نهض كبير الأسود الحجرية عن قفاه وزمجر:

“يا لخيبتكم…! يا لخيبتكم…! يا لخيبتكم…!” ثم تبعته جميع الوحوش الحجرية:

يـــا لخيبتــكـــــم…!!!!

نبذة عن:

محمد حسان

محمد حسان.
رحالة متنقل في ربوع ثقافات القبائل العربية. قديم قدم وعيه وثقافته. عصري حتى نهاية الحلم.
العقيدة: "قوم بلا جهال ضاعت حقوقهم"

عدد المقالات المنشورة: 7.

تابع جديد محمد حسان: الخلاصات

تعليق واحد

  • وليد سليمان
    بقلم وليد سليمان بتاريخ 19 يوليو, 2012, 23:37

    كلمات رائعة وخيال جميل في تصوير الواقع

هل لديك تعليق؟

  • هل تريد صورة مصغرة بجانب تعليقك؟ يمكنك ذلك من خلال التسجيل في خدمة Gravatar. كما يمكنك الاستئناس بهذا الشرح.
  • يرجى التعليق باللغة العربية الفصحى، وباسم مكتوب بأحرف عربية.
© 2024 مجلة القراء.
هذا الموقع يستعمل وورد بريس المعرب، تصميم وتركيب دنيا الأمل.